فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (120):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [120].
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم. و{كلاً} مفعول لنقصّ و{من أنباء} بيان له. و{ما نثبت} بدل من {كلاً} أو خبر محذوف.
{وَجَاءكَ فِي هَذِهِ} أي: السورة، أو الأنباء المقتصة: {الْحَقُّ} أي: القصص الحق الثابت: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.

.تفسير الآية رقم (121):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [121].
{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون: {اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: حالكم من إتباع الأهواء: {إِنَّا عَامِلُونَ} أي: على حالنا من إتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.

.تفسير الآية رقم (122):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [122].
{وَانتَظِرُوا} أي: العواقب: {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي: ما وعدنا به من الفتح، وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.

.تفسير الآية رقم (123):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [123].
{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} أي: أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله: {للَّذينَ لا يُؤمنُونَ} وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي: أنت وهم. أي: فيجازي كلاً بما يستحقه- والله أعلم-.

.سورة يوسف:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [1].
{الر} تقدم الكلام على مثله، وأنها إما حروف مسرودة على نمط التعديد، والإشارة في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى آيات السورة، نزَّل ما بعده لكونه مترقباً منزلة المتقدم. والإشارة بالبعيد لعظمته، وبعد مرتبته، وإما اسم للسورة، والإشارة في {تلك} إليها. والمراد بـ: {الكتاب} السورة؛ لأنه بمعنى المكتوب، فيطلق عليها. أو القرآن، لأنه كما يطلق على كله، يطلق على بعضه. و{المبين} بمعنى الظاهر أمرها وإعجازها، إن أخذ من بان لازماً بمعنى ظهر، وإن أخذ من المتعدي فالمفعول مقدر، أي: أنها من عند الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عربيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [2].
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أي: الكتاب المنعوت بما ذكر: {قُرْآناً عربيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} أي: لكي تفهموه، وتحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم. كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: من الآية 44]، أو لتستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أن اقتصاصه كذلك، ممن لم يتعلم القصص معجز، لا يمكن إلا بالإيحاء.
أو: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بإنزاله عربيًّا، ما تضمن من المعاني والأسرار، التي لا يتضمنها ولا يحتملها غيرها من اللغات، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وفي أشرف شهور السنة، وهو رمضان، فكمل له الشرف من كل الوجوه.

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [3].
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} أي: أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوباً، وأصدقه أخباراً، وأجمعه حكماً وعبراً: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: بإيحائنا إليك: {هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: عنه، لم يخطر ببالك. والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جوز في هذا أن يكون مفعول نقص على أن {أحسن} نصب على المصدر، وأن يكون مفعول {أوحينا} على أن مفعول نقص {أحسن} أو محذوف. وأن يكون بدلاً من ما على أنها موصولة أو خبر محذوف كذلك.

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [4].
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال، أو مفعول لمحذوف {يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا، لاعتقاده كمال علمه، وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.
قال القاشاني: هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير، لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له، إلى الكواكب والشمس والقمر، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. {يا أبت} أصله يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها، أو لأنه كان يا أبتا فحذف الألف، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.
وقوله: {رأيتهم} استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرير، أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد، كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعاً سالماً؛ لوصفها بوصفهم، وهو السجود.
قال المهايمي: ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال: ولم أر من تعرض لهيئة السجود، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل، مستديرة ظهرت أو مستطيلة.

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [5].
{قَالَ يَا بُنَيَّ} صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} أي: فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.
قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب، ولا يتشخص في النفس مفصلاً، حتى يقع العلم به كما هو، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروهاً، وفرح وسرور إن كان مرغوباً. ويسمى هذا النوع من الإلهام: إنذارات وبشارات، فخاف عليه السلام، من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازاً. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: قال الكيا: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.
وقال ابن العربي: فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.
وقال بعض المفسرين اليمانيين: قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة، تحرزاً من الحسود. وهذا داخل في قولنا: إن الحسن إذا كان سبباً للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: من الآية 108].
وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا

الأبيات المعروفة، ذكرها عن زين العابدين، والغزالي في منهاج العابدين والديلمي في كتاب التصفية وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته، والمعنى واحد، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه. انتهى.
ومقصوده: أن خوف الأشرار من الصوراف عن الصدع بالحق.
قال السيد ابن المرتضى اليماني في إيثار الحق: مما زاد الحق غموضاً وخفاء خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك، بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق.
وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية، أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، مع كتم إيمانه، وسميت به سورة المؤمن. وصح أمر عمار به، وتقريره عليه، ونزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: من الآية 106]، وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته لكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [6].
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلاً؛ لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعاً إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا؛ لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بما سيؤول إليه أمرك: {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} وهم أهله من بنيه، وحاشيتهم، أي: يسبغ نعمته عليهم بك: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بمن هو مستحق للاجتباء: {حَكِيمٌ} في صنعه.
تنبيهات:
الأول: قال أبو السعود: كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لابد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها، مما هو أنفسي، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفاً على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لابد أن يكون أنموذجاً لظهور أمر من اتصف به، ومداراً لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.
الثاني: استدل بالآية على أن الجد يطلق عليه اسم الأب، فيدل أن من نسب رجلاً إلى جده وقال: يا ابن فلان أنه لا يكون قذفاً.
الثالث: قال المهايمي: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر، وأن لكل حادث تأويلاً عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال؛ إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه. فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.
بحث في الرؤيا:
قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الذريعة في بحث الفراسة ما مثاله:
ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس} [الإسراء: من الآية 60]، وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِك} [الأنفال: من الآية 43] الآية، وقال في قصة إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} [الصافات: من الآية 102]، وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: من الآية 4].
والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب وهو الأكثر أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموج، لا يقبل صورة.
وضرب وهو الأقل صحيح، وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، ويفرق بين طبقات الناس؛ إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا، وفيهم من تصح رؤياه. ثم من صح له ذلك، منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون: يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن له حظاً من النبوة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه ومبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقاً فيه، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوة عجيبة. انتهى.
وقال الأستاذ ابن خلدون: حقيقة الرؤيا مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات. فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرد عن المواد الجسمانية، والمدارك البدنية. وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، كما نذكر، فتقتبس بها علم ما تتشوف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفاً، وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيال لتخلطه، فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قوياً يستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس، أنها ذات روحانية بالقوة، مستكملة بالبدن ومداركه، حتى تصير ذاتها تعقلاً محضاً ويكمل وجودها بالفعل، فتكون حينئذ ذاتاً روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية، إلا أن نوعها من الروحانيات دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى، على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن. ومنه خاص كالذي للأولياء. ومنه عام للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا. وأما الذي للأنبياء فهو استعداد بالانسلاخ من البشرية إلى الملكية المحضة التي هي أعلى الروحانيات. ويخرج هذا الاستعداد فيهم متكرراً في حالات الوحي، وهي عندما يعرج على المدارك البدنية، ويقع فيها ما يقع من الإدراك، شبيهاً بحال النوم شبهاً بيناً، وإن كان حال النوم أدون منه بكثير، فلأجل هذا الشبه عبر الشارع عن الرؤيا بأنها «جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» وفي رواية «ثلاثة وأربعين»، وفي رواية «سبعين» وليس العدد في جميعها مقصوداً بالذات، وإنما المراد الكثرة في تفاوت هذه المراتب، بدليل ذكر السبعين في بعض طرقه، وهو للتكثير عند العرب، وما ذهب إليه بعضهم في رواية «ستة وأربعين» من أن الوحي كان في مبتدئه بالرؤيا ستة أشهر، وهي نصف سنة ومدة النبوة كلها بمكة والمدنية ثلاث وعشرون سنة، فنصف السنة منها جزء من ستة وأربعين، فكلام بعيد من التحقيق؛ لأنه إنما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن أين لنا أن هذه المدة وقعت لغيره من الأنبياء؟ مع أن ذلك إنما يعطي نسبة زمن الرؤيا من زمن النبوة، ولا يعطي نسبة حقيقتها من حقيقة النبوة. وإذا تبين لك هذا مما ذكرناه أولاً، علمت أن معنى هذا الجزء نسبة الاستعداد الأول الشامل للبشر، إلى الاستعداد القريب الخاص بصنف الأنبياء الفطري لهم، صلوات الله عليهم؛ إذ هو الاستعداد البعيد، وإن كان عاماً في البشر، ومعه عوائق وموانع كثيرة من حصوله بالفعل. ومن أعظم تلك الموانع الحواس الظاهرة، ففطر الله البشر على ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، الذي هو جبلي لهم، فتتعرض النفس عند ارتفاعه إلى معرفة ما تتشوف إليه في عالم الحق، فتدرك بعض الأحيان منه لمحة يكون فيها الظفر بالمطلوب. ولذلك جعلها الشارع من المبشرات، فقال: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات يا رسول الله، قال: «الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح، أو ترى له».
وأما السبب ارتفاع حجاب الحواس بالنوم، فعلى ما أصفها لك: وذلك أن النفس الناطقة إنما إدراكها وأفعالها بالروح الحيواني الجسماني، وهو بخار لطيف، مركزه بالتجويف الأيسر من القلب- على ما في كتب التشريح لجالينوس وغيره- وينبعث مع الدم في الشريانات والعروق فيعطي الحس والحركة، وسائر الأفعال البدنية، ويرتفع لطيفه إلى الدماغ، فيعدل من برده، وتتم أفعال القوى التي في بطونه. فالنفس الناطقة إنما تدرك وتعقل بهذا الروح البخاري، وهي متعلقة به، لما اقتضته حكمة التكوين في أن اللطيف لا يؤثر في الكثيف. ولما لطف هذا الروح الحيواني من بين المواد البدنية، صار محلاً لآثار الذات المباينة له في جسمانيته، وهي النفس الناطقة، وصارت آثارها حاصلة في البدن بواسطته.
وقد كنا قدمنا أن إدراكها على نوعين: إدراك بالظاهر وهو بالحواس الخمس، وإدراك بالباطن وهو بالقوى الدماغية. وأن هذا الإدراك كله صرف لها عن إدراكها ما فوقها من ذواتها الروحانية، التي هي مستعدة له بالفطرة. ولما كانت الحواس الظاهرة جسمانية، كانت معرضة للوسن والفشل، بما يدركها من التعب والكلال، وتغشى الروح بكثرة التصرف، فخلق الله لها طلب الاستجمام، لتجرد الإدراك على الصورة الكاملة. وإنما يكون ذلك بانخناس الروح الحيواني من الحواس الظاهرة كلها، ورجوعه إلى الحس الباطن. ويعين على ذلك ما يغشى البدن من البرد بالليل، فتطلب الحرارة الغريزية أعماق البدن، وتذهب من ظاهره إلى باطنه، فتكون مشيعة مركبها، وهو الروح الحيواني إلى الباطن. ولذلك كان النوم للبشر في الغالب إنما هو بالليل، فإذا انخنس الروح عن الحواس الظاهرة، ورجع إلى القوى الباطنة، وخفت عن النفس شواغل الحس وموانعه، ورجعت إلى الصورة التي في الحافظة، تمثل منها بالتركيب والتحليل صورة خيالية، وأكثر ما تكون معتادة، لأنها منتزعة من المدركات المتعاهدة قريباً. ثم ينزلها الحسن المشترك، الذي هو جامع الحواس الظاهرة، فيدركها على أنحاء الحواس الخمس الظاهرة.
وربما التفتت النفس لفتة إلى ذاتها الروحانية، مع منازعتها القوى الباطنية، فتدرك بإدراكها الروحاني؛ لأنها مفطورة عليه، وتقتبس من صور الأشياء التي صارت متعلقة في ذاتها حينئذ، ثم يأخذ الخيال تلك الصور المدركة، فيمثلها بالحقيقة أو المحاكاة في القوالب المعهودة. والمحاكاة من هذه هي المحتاجة للتعبير، وتصرفها بالتركيب والتحليل في صور الحافظة، قبل أن تدرك من تلك اللمحة ما تدركه هي أضغاث أحلام.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله، ورؤيا من الملك، ورؤيا من الشيطان» وهذا التفصيل مطابق لما ذكرناه، فالجلي من الله، والمحاكاة الداعية إلى التعبير من الملك، وأضغاث الأحلام من الشيطان؛ لأنها كلها باطل، والشيطان ينبوع الباطل.
هذه حقيقة الرؤيا، وما يسببها ويشيعها من النوم، وهي خواص للنفس الإنسانية، موجودة في البشر على العموم، لا يخلو عنها أحد منهم، بل كل واحد من الإنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته مراراً غير واحدة، وحصل له القطع أنى النفس مدركة للغيب في النوم، ولا بد. وإذا جاز ذلك في عالم النوم، فلا يمتنع في غيره من الأحوال؛ لأن الذات المدركة واحدة، وخواصها عامة في كل حال. انتهى.
وذكر رحمه الله عند بحث علم تعبير الرؤيا أن التعبير لها كان موجوداً في السلف، كما هو في الخلف، وأن يوسف الصديق، صلوات الله عليه، كان يعبر الرؤيا، كما وقع في القرآن، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر رضي الله عنه، والرؤيا مدرك من مدارك الغيب كما تقدم. وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي، إذا أدرك مدركه، وألقاه إلى الخيال فصوره، فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء. ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها، أو لقرب الشبه فيها بين المدرك وشبهه. وللبحث تتمة سابغة، انظرها ثمة.
وقوله تعالى: